نُشر في: 5 ديسمبر 2024
مقالات ذات صلة:
حتى لا نكون حشو مدافع في سوريا
منذ حقبة الاستعمار، قدر للدول العربية والإسلامية أن تبقى غارقة في دوامة من الصراعات الاحتلالية والتوسعية، مباشرة وغير مباشرة. ومع انتشار الأنظمة الوظيفية التي تعمل لخدمة مصالح قوى خارجية، تحولت المنطقة برمتها إلى بؤر للنزاع الذي لا ينتهي، يبدأ في مكان، ثم سرعان ما نجد القلاقل تلاحقنا في مكان آخر.
ومع غياب المؤسسات العسكرية العربية وفقدان ثقة الشعوب فيها، ظهرت مطلع الثمانينيات حركات مسلحة تسعى لمقاومة الاحتلال أو التغيير، وبرزت أولى تجاربها مع الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، وامتدت هذه التجارب إلى حرب البوسنة والهرسك في التسعينيات، ثم الشيشان والعراق.
وعلى الرغم من اختلاف السياقات، فإن جميع هذه التجارب، التي اعتمدت على القتال المسلح بعيدًا عن الجيوش النظامية لتحقيق أهدافها، انتهت في غالبها إلى نكسات كبرى، ولم تحقق لشعوبها سوى الدمار وحمامٍ لا ينتهي من الدماء.
في الواقع، من خلال هذه التجارب، يظهر جليًّا أننا كنا مجرد أدوات تُستخدم، أي كحشو مدافع في معارك الوكالة لخدمة مصالح القوى الكبرى، إذ افتقدت جل هذه التجارب إلى أذرع سياسية فاعلة، وإلى رؤية إستراتيجية شاملة، وإلى قراءة صحيحة للمشهد الدولي والقوى الفاعلة فيه، ما يقودنا إلى سؤال مشروع عن المشكلة الكبرى التي نواجهها كشعوب في المنطقة، وعن فهم ديناميكيات الصراع والمصالح المتداخلة، وكيفية الخروج لتحقيق تطلعاتنا الكبرى.
بالنسبة إلى تركيا، فهي ترى في سوريا امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي، إذ تعمل على دعم الفصائل المعارضة للنظام السوري، التي تعتبرها حائط صد أمام تطلعات الأكراد الانفصالية
المصالح المتضاربة والمعقدة في سوريا
تمثل سوريا بالنسبة لإيران بوابة إستراتيجية لربطها بحزب الله عبر ما يُعرف بـ”الهلال الشيعي” الممتد من إيران إلى العراق فسوريا ولبنان. إضافة إلى ذلك، تعتبر إيران الوجود في سوريا جزءًا من إستراتيجيتها الدفاعية، أي تستخدمها كـ”جدار صد” أمام أي هجوم إسرائيلي أو غربي، وورقة لمواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية، وساحة لإبراز نفوذها في المنطقة.
بالتالي، ترى إسرائيل في سوريا تهديدًا مباشرًا لنفوذها الأمني؛ بسبب الوجود الإيراني المكثف، حيث أصبحت سوريا مركزًا لتمركز قوات الحرس الثوري الإيراني وأذرعه المختلفة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، الذي تعد سوريا طريق الإمداد الرئيسي والوحيد له.
أما روسيا، فتعتبر سوريا عنصرًا حيويًّا في إستراتيجيتها الجيوسياسية، حيث يوفر لها ميناء طرطوس على البحر المتوسط قاعدة بحرية تضمن لها الوصول إلى المياه الدافئة. كما أن وجودها في سوريا يعزز مكانتها كلاعب دولي رئيسي في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي.
وبالنسبة إلى تركيا، فهي ترى في سوريا امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي، إذ تعمل على دعم الفصائل المعارضة للنظام السوري، التي تعتبرها حائط صد أمام تطلعات الأكراد الانفصالية؛ إذ تخشى أن تتحول المناطق الكردية في شمال سوريا إلى نقطة انطلاق لمشروع دولة كردية مستقلة، قد تُشجع أكراد تركيا على مطالب مماثلة.
وبالطبع، لا تبتعد واشنطن عن الصراع، إذ تدعم الأكراد في الشمال السوري، ممثلين بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعتبرها واشنطن شريكًا أساسيًّا في الحرب على ما تسميه “الإرهاب”، كما تراها منافسًا للنفوذ الإيراني، وهو ما يخدم المصالح الإسرائيلية.
أين هذه الشعوب من فلسطين ومن حرب الإبادة؟! هل نسيت الشعوب فلسطين؟ الكل يعلم الإجابة.. الشعوب لم تنسَ فلسطين، لكنها أُقصيت عن دورها الحقيقي في المساندة بسبب استبداد أنظمتها
لو أمعنت النظر لما وجدت عدوًا أقوى من الاستبداد
لو أمعنا النظر لوجدنا أن العدو الأكبر هو الاستبداد، إن الدماء والمبادئ لا تتجزأ، وإذا كانت فلسطين هي القضية الجامعة للعرب، فإن الحرية والعدالة هما السبيل الوحيد لتحقيقها، وهو ما يجب أن نفهمه، وألا ندع آلامنا ومآسينا الحالية تنسينا إياه. لولا الاستبداد لما وجدت إسرائيل موطئ قدم لها في المنطقة، ولولا الأنظمة القمعية لما تمكنت إسرائيل من التحليق بطائراتها فوق العواصم العربية دون خوف من رقيب أو حسيب.
يسأل كثيرون: أين هذه الشعوب من فلسطين ومن حرب الإبادة؟! هل نسيت الشعوب فلسطين؟ الكل يعلم الإجابة.. الشعوب لم تنسَ فلسطين، لكنها أُقصيت عن دورها الحقيقي في المساندة بسبب استبداد أنظمتها، التي حرمتها من امتلاك أمرها وقرارها. وهذا يفسر سرعة إعلان البعض المتواطئ في حرب الإبادة الوقوف مع بشار الأسد، وكذلك مواقف مشابهة لدول أخرى.
اتخذت حركة حماس، موقفًا تاريخيًا عام 2012، بالانفصال عن النظام، ورفضها ربط اسمها بأبشع الجرائم، وهو ما انعكس على أقل تقدير على الإجماع الذي تحظى به اليوم
الاستبداد والمقاومة لا يجتمعان
- الاستبداد والصهيونية وجهان لعملة واحدة
لقد قدم حزب الله في حرب غزة قبل وقف إطلاق النار ما لم تقدمه الدول العربية، وهذا صحيح ولا ينكره منصف، وقد دفع ثمنًا باهظًا لمساندته غزة، ورغم كل ما قدمه فإن هذا لا يمحو جرائمه وانحيازه للاستبداد، وقد دفع ثمن هذا باهظًا.
فتدخله في سوريا كان نقطة التحول التي أدت لهز أركانه، وخسارته الكاملة تقريبًا لقيادته، كما تقول “وول ستريت جورنال”، فإن مفتاح انكشاف الحزب أمنيًا كان سوريا. وعلى العكس من ذلك اتخذت حركة حماس، موقفًا تاريخيًا عام 2012، بالانفصال عن النظام، ورفضها ربط اسمها بأبشع الجرائم، وهو ما انعكس على أقل تقدير على الإجماع الإسلامي الذي تحظى به اليوم.
اليوم، يجد الحزب نفسه أمام مفترق طرق حاسم.. هل سيبقى حبيس تحالفاته مع أنظمة الاستبداد التي استنزفت مصداقيته؟ أيكون مقاومًا أم مستبدًا؟!
ينبغي أن يكون الحزب قد وعى الدرس جيدًا، فقد خاض معركة المقاومة الأخيرة (الطوفان) بعد أن اصطف إلى جانب الاستبداد في سوريا، وقد وجد – والكل يعرف، ولا تغير ذلك تصريحات النصر – أن أركانه قد زُلزلت، وأنه يعيش منعطفًا تاريخيًا قد يهدد وجوده.
إن نجاح المعارضة في سد فجوة السياسة التي أضعفتها سابقًا لم يعد خيارًا، بل ضرورة.. لا يمكن لعاقل أن يتصور الوصول إلى دمشق وحكم الشام دون غطاء دولي أو توافق سياسي، ولو كان محدودًا
حتى لا نكون حشو مدافع
أظهرت الجماعات المسلحة المعارضة مؤخرًا بعض المرونة، وإن كانت غير كافية، فظاهريًا ما زالت لا تحسن السياسة ولا التحالفات، ويفتقد قادتها لرؤية إستراتيجية عالمية شاملة. وأخشى ما أخشاه أن يعيدها واقعها إلى التناحر من جديد، وهو أحد سببين جوهريين أديا للانتكاسة، وخسارة المعارضة كل مكاسبها بعد عام 2015.
أما السبب الآخر، وهو الجدير بالتركيز والانتباه وهو انقطاع الدعم، فالسلاح والمال لا تنزلهما السماء، كما أن لكل من الداعمين أجندته ومطامعه ومكاسبه الخاصة. فهل حسبت المعارضة قبل هجومها وتوسعها هذا الحساب؟! هل قرأت المشهد السياسي قراءة جيدة؟! خاصة لروسيا وإيران؟ هل تمتلك من القوة ما تحافظ به على مكاسبها الآنية وتحول دون انهيارها وتحكم الداعمين فيها؟ هل أعدت نفسها سياسيًا لهذا؟ أم إن هذا مجرد مبرر لإبادة يرتكبها النظام بحق المدنيين في الشمال السوري؟!
حقيقة، لا أعرف إجابة، لكن الأكيد أن المعارضة إذا ما أرادت مكاسب حقيقية لا نتائج كارثية فعليها من الآن – إن لم تبدأ- خوض معركة سياسية رديفة للمجهود العسكري من الشرق إلى الغرب، وعليها أن تقدم نفسها كجزء من الحل لا المشكلة، وأن تتحلى بالمرونة الكافية لتقنع مختلف الأطراف الفاعلة -ولو مؤقتًا- أنها البديل الأمثل لدولة آمنة، لا دولة مفككة ساقطة فاشلة كالتي دمرها الأسد.
على المعارضة السورية أن تُمنح فرصة للتفاعل مع الحزب إذا قرر العودة إلى نهج المقاومة، لا لأن الدماء تُغفر، ولكن حفظًا لمزيد من الدماء من أن تهدر، وحفاظًا على سلاح مشرع في وجه إسرائيل، وهذا مقرون بقرار الحزب عدم تكرار الخطأ الماضي.
وعلى الحزب أن يعلم جيدًا أنه إذا اختار نهج المقاومة، لا الاستبداد، فإن حرية الشعوب لن تكون عائقًا أمامه، بل ستكون داعمًا، وستلتف حوله كما حدث عام 2006، ولن يخسر الحزب أيًا من مكاسبه التي يخشى زوالها في سوريا.
تحتاج روسيا لطمأنات لوصولها إلى المياه الدافئة، ولا ضير في اللعب على التوازنات العالمية وتوظيفها لخدمتك، وهي إستراتيجية الأذكياء من المستضعفين، وعلى المعارضة أيضًا أن تكون مرنة مع إيران نفسها، فإيران براغماتية، وتعمل بطريقة فصل الملفات، بمعنى أنك ربما تتفق معها على شيء في سوريا وتختلف معها في العراق مثلًا، وقد شاهدنا اتفاقات كثيرة تجريها مع دول كتركيا، وحتى السعودية مؤخرًا، رغم وجود الكثير من القضايا المختلف عليها، خاصة أن إيران تعلم الآن أكثر من أي وقت مضى أنها لا تسطيع القتال في سوريا، وهي مثخنة بالجراح، وتحتاج للتفاوض والتقاط الأنفاس، وإعادة بناء ما يمكن بناؤه.
أما تركيا – الداعم الظاهر الآن بوضوح خلف المعارضة- فهدفها الأول والأهم المسألة الكردية، بالإضافة لضمان عدم حدوث موجة لاجئين جديدة، ويكفي أن تظهر المعارضة رؤية وتفاهمًا وتنسيقًا لتبقى تركيا أهم طرف خلفها.
أما الولايات المتحدة، خاصة مع إدارة الرئيس القادم ترامب، الذي يريد التركيز على أهدافه الأهم، وهي الصين ومن بعدها إيران، فتستطيع تركيا أن تبعث بالطمأنات المناسبة لها لحثها على غض النظر.
إن نجاح المعارضة في سد فجوة السياسة التي أضعفتها سابقًا لم يعد خيارًا، بل ضرورة.. لا يمكن لعاقل أن يتصور الوصول إلى دمشق وحكم الشام دون غطاء دولي أو توافق سياسي، ولو كان محدودًا، ودون هذا فإن المجهود والانتصارات العسكرية ليست كافية لتجنب أن يكون السوريون حشو مدافع في مغامرات لا تأتي إلا بكوارث.
ختامًا: إن المقاوم الذي يدعم الاستبداد ويصر عليه بعد أن تبين له واقعه إنما هو حشو لمدافع الغير، يَقتل ويُقتل في بحرٍ من الدماء المهدرة البعيدة عن أهدافه، وإن التناحر في سوريا من جديد، وشق صف الأمة، الذي ما إن بدأ في التشكل مع حرب الإبادة والفظائع القادمة من غزة بعد عقود من الصراعات الطائفية، لهو الخادم الحقيقي للعدو الصهيوني. وتطلعات الشعوب – والشعب السوري أحدها- ليست هي التي تخدم العدو، كما يعتقد البعض بنظرة سطحية آنية.
ولنذكر أن سوريا كانت في قلب ثورات الربيع العربي، هذه الثورات التي ندفع ثمن عدم تحقيق أهدافها في غزة الآن، لو حققنا هذه الأهداف لما كانت إسرائيل تجرؤ على فعل ما تفعله الآن.. أيها الحر، لا تكون ظهيرًا للاستبداد، فالاستبداد فرقنا ومزقنا، وبالاستبداد علت إسرائيل، وبالاستبداد رخصت دماؤنا، وغُلّت أيدينا.