نُشر في: 31 يناير 2021
مقالات ذات صلة:
خارج النص | “بعد الموقعة”.. هل برّأ يسري نصر الله من اقتحموا الميدان ودان الثوار؟
في 2 فبراير 2011 شهد ميدان التحرير في القاهرة أحد أكثر المشاهد دراماتيكية في تاريخ الثورة المصرية. عشرات الرجال على ظهور الجِمال والأحصنة اقتحموا الميدان في محاولة يائسة لتفريق المتظاهرين السلميين، فيما عُرف لاحقًا بـ«موقعة الجمل». هذا المشهد الصادم لم يُمحَ من ذاكرة المصريين، بل تحول بعد عام إلى مادة لفيلم سينمائي أثار جدلًا واسعًا. المخرج المصري يسري نصر الله قرر أن ينقل تلك الحادثة إلى الشاشة من زاوية غير معتادة، مقدمًا فيلمه «بعد الموقعة» (2012) الذي طُرح معه سؤال جريء: هل برّأ يسري نصر الله من اقتحموا الميدان ودان الثوار؟ وقد تناولت قناة الجزيرة هذه التساؤلات في فيلم وثائقي ضمن برنامج «خارج النص».
فما حكاية هذا الفيلم الذي يمزج بين الواقع والخيال، ولماذا انقسمت الآراء حول موقفه من الثورة والثوار والمهاجمين؟
تناول “بعد الموقعة” صدام الطبقات والثقافات في مصر ما بعد الثورة. ريم المثقفة القادمة من حي راقٍ (ربما من الزمالك حيث تعيش الطبقة الوسطى الميسورة) تلتقي بمحمود ابن العشوائيات الفقير. الفوارق في اللغة والسلوك بينهما واضحة منذ البداية، لكنها لا تلبث أن تتقلص مع نمو معرفتهما ببعض. يضع الفيلم الأصبع على تناقضات مجتمع ما بعد مبارك: فقراء يكافحون للعيش ومستعدون لتصديق أي وعد بالاستقرار، ومثقفون وحالمون بالتغيير لكن قد تنقصهم أحيانًا معرفة معاناة الطبقات المهمشة. من خلال الحوار بين ريم ومحمود وزوجته وأهل النزلة، نرى صورة بانورامية للمجتمع المصري: الأميّ المخدوع الذي ظنّ الثورة مؤامرة، والمثقف الثوري الذي ظنّ الفقراء واعين بما يكفي. كلاهما يكتشف الآخر على حقيقته عبر الاحتكاك المباشر: ريم تدرك أن من كانت تسميهم “بلطجية” ما هم إلا ضحايا ظروفهم وأكاذيب السلطة، ومحمود يدرك أن الثورة لم تكن فوضى عبثية بل صرخة من أجل مستقبل أفضل.
أثار “بعد الموقعة” منذ عرضه الأول في مهرجان كان السينمائي 2012 الكثير من الجدل والنقاش. فالفيلم كان أول عمل مصري بهذا الحجم يتناول ثورة يناير مباشرة وتبعاتها، بل ويركز على إحدى أكثر أحداثها إثارة للانقسام. وجد النقاد والجمهور أنفسهم منقسمين في تقييم موقف الفيلم: هل منح تعاطفًا زائدًا عن اللزوم لمن هاجموا الثوار؟ أم أنه قدّم طرحًا موضوعيًا جريئًا يحاسب الجميع؟
من جهة أولى، أشاد عدد من النقاد بشجاعة يسري نصر الله في خوض هذه المنطقة الملغومة. رأوا أن الفيلم قدم رؤية مختلفة وضرورية، تذكّر بأن الثورة كانت حدثًا مركبًا لا معسكر خير مطلق في مواجهة شر مطلق. فمحاولة فهم المهاجمين لا تعني إطلاقًا تبرئة فعلهم، وإنما ترصد الواقع الاجتماعي المرير الذي أنتجهم. كذلك قدّر البعض رسالة الفيلم التصالحية، إذ رأوا فيها دعوة ضمنية إلى رأب الصدع الوطني الذي خلفته أحداث مثل موقعة الجمل. فبدل أن يستمر الاستقطاب بين “ثوار” و”فلول” (وهو وصف أنصار النظام السابق)، يطرح نصر الله احتمال المصالحة عبر الحوار والتفاهم. هذا التوجه اعتُبر إنسانيًا ونبيلًا، خاصة وأن نهاية الفيلم حملت بارقة أمل في انضمام المخطئين إلى صفوف المطالبين بالتغيير بمجرد أن تتضح لهم الحقيقة. أضف إلى ذلك الجانب الفني والتقني للعمل، حيث أثنى البعض على استخدام مشاهد حية ودمج أشخاص حقيقيين من قلب نزلة السمان، مما أعطى الفيلم روحًا وثائقية مميزة داخل قالب روائي.
لكن في المقابل، لم يسلم الفيلم من الانتقادات اللاذعة. قطاع من الجمهور، وخاصة من عاشوا أيام الثورة في الميدان، شعروا بشيء من خيبة الأمل أو حتى الغضب تجاه طريقة المعالجة. بالنسبة لهؤلاء، كان تصوير أحد بلطجية موقعة الجمل كإنسان طيب في داخله ويعاني ظروفًا صعبة محاولةً غير مقبولة لتلميع صورة من كاد يقتل الثوار. تساءل بعضهم: هل توقيت عرض الفيلم كان مناسبًا؟ ففي 2012 كانت الجراح لا تزال مفتوحة، ولم يكن كثيرون مستعدين عاطفيًا لرؤية جانب آخر لمن هاجموا الميدان. آخرون انتقدوا السيناريو ذاته من منظور فني بحت؛ فوجدوا الحبكة غير محكمة تضم مواقف غير مبررة، مثل تسارع العلاقة بين ريم ومحمود بشكل أفقد القصة شيئًا من المنطق. وهناك من رأى أن الفيلم حاول إرضاء جميع الأطراف فجاء مرتبكًا لا يرضي أياً منهم تمامًا: فهو لم يكن فيلمًا ثوريًا صرفًا يمجّد الثوار، ولا فيلمًا يحمّلهم مسؤولية الفوضى، بل وقع في منطقة وسطى أربكت بعض المشاهدين. حتى أداء الممثلين لم يسلم من النقد، حيث وجد بعض النقاد أن منة شلبي (ريم) بالغت في الانفعال في بعض المشاهد، وأن باسم سمرة نفسه رغم أدائه الجيد كان يمكنه تقديم أفضل في تجسيد التقلبات النفسية لشخصية مركبة كمحمود.